الجنوب العربي عند بوابة عُمان: كيف نفهم ما يجري في حضرموت والمهرة؟
مع أولى ساعات صباح الخميس 4 ديسمبر، دوّى اسم وادي حضرموت مجدداً، بعدما اندلعت اشتباكات عنيفة في الهضبة المحيطة بمنشآت بترومسيلة النفطية بين قوات من “النخبة الحضرمية” ومجاميع مسلّحة موالية للشيخ القبلي عمرو بن حبريش. انتهت المواجهة، وفق مصادر تحدّثت لـ”الحرة”، بقتلى وجرحى من الطرفين واستعادة السيطرة على المواقع، لتُسجَّل أول حصيلة دموية بارزة في صفوف الحضارمة منذ بداية التوترات، في ما بات يُعرف بعملية “المستقبل الواعد” الهادفة إلى تغيير خريطة النفوذ في شرق اليمن. وبعد ساعات، أعلنت شركة بترومسيلة استئناف التشغيل التدريجي في قطاعات المسيلة مع تحسّن الوضع الأمني وتأمين الحقول، مؤكدة أولوية استمرار توليد الكهرباء وتوفير الوقود. بالتوازي، كانت محافظة المهرة – ثاني أكبر محافظات البلاد والمجاورة لعُمان – تدخل المشهد بطريقة مختلفة تماماً: لا دبابات تتقدّم ولا اشتباكات على مداخل المدن، بل تغيير هادئ في القيادات الأمنية والعسكرية “بضغط شعبي” كما يقول قادة في المجلس الانتقالي الجنوبي، مع رفع علم الجنوب فوق منفذ شِحن الحدودي بين اليمن وسلطنة عمان، في إشارة رمزية إلى أن مشروع “الجنوب العربي” بات يلامس حدود دولة خليجية للمرة الأولى منذ عام 1990. بين هذين المشهدين – اشتباكات نفطية في حضرموت، وانتقال هادئ في المهرة – تتشكّل صورة جديدة لمستقبل العلاقة المعقدة بين المجلس الانتقالي، والحكومة المعترف بها دولياً، والسعودية، والولايات المتحدة. “الطريقة خاطئة، لكن النتيجة صحيحة”؟ قبل أسبوع واحد فقط، حلف قبائل حضرموت أعلن “تفويضاً كاملاً” لقوات ما تعرف بـ “حماية حضرموت” للتحرك فوراً لردع أي قوات قادمة من خارج المحافظة الغنية بالنفط، واعتبر أن أي تمركز لتلك القوات “احتلال” يستوجب المقاومة بكل الوسائل. التحذيرات تزامنت مع حشود عسكرية للمجلس الانتقالي وتعيينات جديدة للمحافظ في محاولة لامتصاص التوتر، وسط تحذير عضو مجلس القيادة الرئاسي فرج البحسني من أن حضرموت تمرّ بـ”أخطر مرحلة منذ عقود”. مع انطلاق العملية التي أطلق عليها المجلس الانتقالي اسم “المستقبل الواعد” في 2 و3 ديسمبر، انتقلت الصورة من التهديد إلى الفعل. وفق توثيق مراكز أبحاث وتقارير صحفية، منها تقرير لـ”نيويورك تايمز”، تقدّمت قوات المجلس الانتقالي المدعومة من الإمارات عبر الوادي، وسيطرت خلال ساعات على سيئون ومطارها ومقر المنطقة العسكرية الأولى، ثم تمددت نحو تريم والقطن ومواقع عسكرية في عمق الصحراء، في هجوم وصفه التقرير بأنه “اجتياح سريع لإقليم نفطي استراتيجي” مدعوم بعتاد إماراتي متطور، بينها مدافع هاوتزر صينية من طراز AH-4. رواية المجلس الانتقالي الجنوبي: المجلس الانتقالي يقدّم رواية ثابتة عن دوافع العملية. المتحدث باسم المجلس أنور التميمي يقول في إجابته على أسئلة موجهة من الحرة إن هدف العملية العسكرية “أمني بالدرجة الأولى، ويتمثل في إعادة الاستقرار لوادي وصحراء حضرموت وإنهاء حالة الانفلات الأمني، ووقف استغلال المنطقة من قبل قوات دخيلة على الوادي والمحافظة” يضيف التميمي أن هذا الانفلات دفع ثمنه المواطن والمنطقة ككل؛ إذ تحولت مناطق الوادي والصحراء إلى ملاذ لعصابات التهريب والجريمة المنظمة، ووجدت فيها التنظيمات المتطرفة – القاعدة وداعش وتنظيمات عابرة للحدود – بيئة مثالية لنشاطها. ويستشهد بإحصاءات لدى الأجهزة الأمنية المحلية تتحدث عن أكثر من 300 عملية اغتيال خلال السنوات الماضية، معظمها قُيّد ضد مجهول، وبـتقارير دولية بينها تقرير فريق خبراء الأمم المتحدة تشير إلى أن الوادي والصحراء “إحدى ممرات السلاح المهرب للحوثيين”، وأن لحركة الشباب الصومالية نشاطاً عملياتياً في حضرموت. عمرو البيض، ممثل الشؤون الخارجية في المجلس الانتقالي، يذهب أبعد في إحاطته الإعلامية للصحفيين. يصف وادي حضرموت بأنه “مركز رئيسي لتهريب الأسلحة للحوثيين ولحركة الشباب”، ويقول إن المنطقة العسكرية الأولى وقوات موالية للإخوان المسلمين وفّرت غطاءً لهذا النشاط عبر “نقاط تفتيش غير قانونية” و“تمكين ميليشيات قبلية” عطلت عمل السلطة المحلية وأضعفت حضور الدولة. من وجهة نظره، الهدف المباشر تحقق: تم توحيد محافظة حضرموت عملياتياً تحت قيادة واحدة، وجرى قطع جزء رئيسي من شرايين تهريب السلاح نحو الحوثيين. لكن الطريقة تبقى محل جدل. “الطريقة ربما كانت خاطئة، لكن النتيجة صحيحة… عملناها مضطرين” يقول البيض. رغم إقراره بأن دخول قوات الانتقالي بقوة السلاح إلى مناطق خاضعة لجيش الحكومة “ليس المسار المثالي”، لكنه يصفه بـ”خيار اضطراري” في ظل “فراغ القرار” مع تأكيده وجود تنسيق وعمليات مشتركة مع وزارة الدفاع في إطار الدولة. خلف الكواليس، يدرك قادة المجلس الانتقالي أن ما حدث في حضرموت لن يُقرأ فقط باعتباره عملية أمنية. أحد العناوين العريضة في إحاطة عمرو البيض هو نقد حاد لمجلس القيادة الرئاسي، الذي يرى أنه “لم يتخذ قراراً حاسماً بشأن وادي حضرموت طوال سنة ونصف”، رغم تحذيرات متكررة من التهريب والإرهاب. على المستوى الرسمي، اكتفى رئيس مجلس القيادة الرئاسي رشاد العليمي بتصريح حيادي دعا فيه جميع الأطراف إلى تجنب “أي تصعيد ميداني” وعدم تعطيل الخدمات أو جرّ حضرموت إلى صراع داخلي جديد، من دون تسمية واضحة للمسؤول عن التصعيد. هذا الموقف المتحفظ قوبل بانتقادات على مواقع التواصل الاجتماعي، خصوصاً من أنصار الحكومة الشرعية الذين رأوا أن العليمي يتعامل مع تغيّر جذري في الخريطة العسكرية شرق البلاد كأنه خلاف محلي عابر، لا كسابقة تستدعي موقفاً أوضح تجاه تمدّد المجلس الانتقالي وتراجع نفوذ الجيش اليمني. في المقابل، حلف قبائل حضرموت يرى الأمور من زاوية مختلفة: يعتبر أن التحركات العسكرية للمجلس الانتقالي هي “محاولة واضحة للسيطرة على المحافظة ومكامن النفط”، ويصف قوات الانتقالي بـ“القوى الخارجية” ويصنّف تمركزها في حضرموت كـ“احتلال”. ويرفع شعار تمكين الحضارم من إدارة شؤون محافظتهم بعيداً عن الوصاية المركزية سواء من صنعاء أو عدن. وللمفارقة، ورغم أن المجلس الانتقالي يعلن بوضوح أن مشروعه “جنوبي الهوية والحدود”، فإن تحرّكاته في حضرموت وشبوة حظيت بتأييد لافت من منصّات إعلامية محسوبة على الشمال. قناة “الجمهورية” التابعة للمقاومة الوطنية التي يقودها طارق صالح، قدّمت التقدّم الجنوبي في الوادي بوصفه خطوة لـ”ضرب نفوذ الإخوان والتهريب” أكثر من كونه توسعاً لمشروع دولة جنوبية. هذا التقاطع الخطابي بين جزء من معسكر الشمال المناهض للحوثي والمجلس الانتقالي يعكس كيف يمكن لخصوم الإخوان أن يلتقوا تكتيكياً، حتى لو ظلّوا مختلفين جذرياً حول شكل الدولة ومستقبل الوحدة. ماذا يحدث في المهرة على الحدود العمانية؟ إذا كانت حضرموت قد شهدت عملية عسكرية مكتملة الأركان، فإن ما جرى في المهرة يقدّمه المجلس الانتقالي بلغة مختلفة. البيض وفي إحاطته يوكد أن “لا توجد عملية عسكرية في المهرة”، ويقول إن ما حصل هناك هو “تعاطف شعبي واسع” وأن القيادات العسكرية نفسها أعلنت ولاءها للمجلس الانتقالي من داخل المحافظة. النتيجة على الأرض، كما توثقها تقارير صحفية ومصادر محلية، هي: تغيير هادئ في قيادات الأمن والجيش واستمرار الحالة الأمنية اليومية “كما هي” بالنسبة للمواطن، مع “استبدال المشروع” كما يقول البيض. رفع علم الجنوب على منفذ شِحن الحدودي مع عُمان كان اللحظة الرمزية الأبرز في المهرة؛ محافظة ظلّت لسنوات بعيدة عن التماس المباشر مع الحرب. لكنّ عمرو البيض لا يغلق الباب أمام تحرّك عسكري محتمل هناك. فعندما سُئل عن الشيخ علي سالم الحريزي، القيادي القبلي البارز في المهرة، وصفه بأنه يقود “مجاميع مسلّحة قد تضطر القوات الجنوبية للتعامل معها”، ملوِّحاً بإمكانية “الدخول” إذا اقتضت الحاجة. بهذا المعنى، تبدو المهرة نقطة اختبار إضافية: هل سيتمكّن المجلس الانتقالي من تحويل “تعبير التعاطف” وولاءات القيادات العسكرية إلى ترتيبات مستقرة تحظى بقبول قبلي ومحلي، خصوصاً في محافظة شديدة الحساسية لعُمان والسعودية في آنٍ واحد؟ منفذ شحن الواقع على الحدود الجنوبية العمانية: الاتفاق السعودي.. ارتياح في الرياض، امتعاض في عدن وسط هذا الحراك، برزت وساطة سعودية عاجلة في حضرموت أفضت إلى اتفاق تهدئة بين المحافظ الجديد سالم الخنبشي وحلف قبائل حضرموت الذي يقوده عمرو بن حبريش. الاتفاق تضمّن وقفاً لإطلاق النار، وإبعاد القوات عن محيط الشركات النفطية، وترتيبات لإعادة انتشار قوات حماية المنشآت، مع وعود بمناقشة الدمج والترتيبات الأمنية لاحقاً. من وجهة نظر الرياض، يشكّل هذا الاتفاق نجاحاً تكتيكياً في منع انفجار حضرموت إلى مواجهة شاملة بين القبائل والقوات الجنوبية. أما في ميزان المجلس الانتقالي، فالصورة مختلفة. عمرو البيض لا يخفي رفضه للاتفاق كما صيغ، ويصفه في إحاطته بأنه “شيء غير مقبول”، لأنه أُبرم بين السعودية والمحافظ وبن حبريش “من دون إشراك الطرف الذي دفع الكلفة العسكرية على الأرض”. بين واشنطن والانتقالي.. تنسيق أمني بلا قرار سياسي: في خلفية المشهد، تحضر الولايات المتحدة كعامل حاسم وإن بصمتٍ محسوب. يؤكد عمرو البيض أن المجلس الانتقالي يجري عمليات مشتركة وتنسيقاً أمنياً مع وزارة الدفاع اليمنية وقيادة التحالف، وأن التواصل مع الخارجية الأميركية والسفارة وقيادة “سنتكوم” يتم “ضمن إطار الدولة” لا خارجه. لكن حين تواصلت مع الخارجية الأميركية، والقيادة المركزية، جاء الرد في الحالتين بأنه “لا تعليق” و“لا يوجد ما نقوله في هذا الشأن”، في تكرار متعمّد لنهج الصمت العلني. هذا الصمت يعكس توازن واشنطن الدقيق: عدم الظهور كداعِم لتحرّك أحادي قد يربك معسكر مناهضة الحوثيين، من دون إغلاق الباب أمام طرف يقول إنه يضرب شبكات تهريب السلاح إلى الحوثيين وحلفائهم. إزاء ذلك، يقدّم المجلس الانتقالي نفسه كشريك أمني موثوق، مروّجاً لتحرّكاته أمام الإعلام الغربي عبر ثلاث ركائز مترابطة: استهداف نفوذ الإخوان، وقطع طرق تهريب السلاح الإيراني إلى الحوثيين عبر حضرموت والمهرة، والتحذير من صلات بين الحوثيين وحركة الشباب الصومالية على ضفتي خليج عدن. هذه اللغة تنسجم مع أجندة مكافحة الإرهاب في واشنطن وأبوظبي والرياض، وتمنح الانتقالي هامش مناورة أوسع من حجمه السياسي الرسمي.